التوجيهات الخفية- كيف تشكل القرارات الصغيرة مجتمعاتنا؟

المؤلف: د. هشام المكي10.30.2025
التوجيهات الخفية- كيف تشكل القرارات الصغيرة مجتمعاتنا؟

في مستهل هذا المقال، أود أن أسرد عليكم ثلاث حكايات متنوعة، تحمل في طياتها دروسًا متباينة. قصتان منها تدوران أحداثهما في ربوع الولايات المتحدة الأمريكية، بينما تجري أحداث القصة الثالثة في إحدى المدن المغربية الوادعة، تلك التي لم يسمع بها الكثيرون. وأعد القراء المتفانين الذين سيصبرون على قراءة المقال حتى نهايته، بمزيد من القصص الشيقة التي ستأتي لاحقًا.

يروي لنا ريتشارد ثالر حكاية ظريفة: كان يقوم بتدريس مادة حول اتخاذ القرارات التجارية لطلاب الدراسات العليا في كلية إدارة الأعمال. وكان بعض الطلاب، رغبة منهم في المغادرة المبكرة، يتسللون خارج القاعة بكل حذر وتكتم. ولكن لسوء حظهم، كان المخرج الوحيد المتاح لهم يمر عبر باب كبير مزدوج، مزود بمقبضين خشبيين طويلين على كل جانب.

والمقبضان كانا مثبتين بشكل عمودي. فعندما يحاول الطلاب التسلل والخروج، ويصلون إلى هذا الباب المزدوج، كانوا يواجهون رغبتين غريزيتين متعارضتين: إحداهما تنبع من الخبرة السابقة في التعامل مع الأبواب، والتي تقول بأن مغادرة القاعة تستلزم دفع الباب.

توجيهات خفيّة

أما الغريزة الأخرى، فهي مصممة للتعامل مع التوجيه الضمني الكامن في المقبضين الظاهرين، والتي تقول بأنه عندما يواجه الطالب هذين المقبضين الخشبيين الكبيرين المصممين للإمساك بهما، فعليه أن يقوم بجذب الباب. وتبين أن الغريزة الأخيرة قد تفوقت على الأولى، فبدأ كل طالب يهم بالخروج بجذب الباب، لكن الباب كان يقاوم ولا يفتح، لأنه كان مصممًا ليفتح إلى الخارج.

ولكم أن تتخيلوا المشاهد المضحكة التي كانت تحدث نتيجة لذلك، والإحراج الشديد الذي كان يعانيه الطلاب المتسللون في كل مرة، وهم يصارعون الباب للخروج، بينما أستاذهم ثالر وبقية الطلاب يستمتعون بمشاهدتهم وهم في غاية الإحراج والحصار أمام الباب المزدوج الذي كان يفضح تسللهم في كل مرة.

الدرس الأول الذي نتعلمه من هذه الحكاية، هو أنه قد يتبادر إلى أذهاننا أننا أحرار في اتخاذ العديد من القرارات في حياتنا، ولكن في الواقع، فإن ما نصادفه في حياتنا من خيارات، قد يتأثر في الغالب بالعديد من التوجيهات الضمنية والخفية التي قد لا نلتفت إليها، ولكنها مع ذلك تؤثر في حياتنا وفي القرارات التي نتخذها. فالطلاب لم يتمكنوا من تجاهل الرسالة الجلية التي كان يرسلها المقبض الخشبي الكبير: أنا هنا لتجذبني!

أما الحكاية الثانية، فأبطالها هما كارولين وآدم؛ كارولين هي مديرة خدمات التغذية لنظام المدارس في إحدى المدن الأمريكية، بينما آدم هو مستشار إداري يعمل مع سلاسل أسواق كبرى. لاحظت كارولين أن معظم الطلاب في المطاعم المدرسية كانوا يختارون أطعمة أقرب إلى نظام الوجبات السريعة وأبعد ما تكون عن الغذاء الصحي. فقرر الصديقان القيام بتجربة طموحة، قوامها تغيير الطرق التي تعرض بها الأطعمة والطريقة التي ترتب بها، دون إحداث أي تغيير في قوائم الطعام. وهكذا، في بعض المدارس وضعت الحلويات في بداية الصفوف، وفي مدارس أخرى وضع الجزر على مستوى نظر الطلاب في الصفوف الأمامية، بينما تم تأخير البطاطس المقلية إلى الصفوف الخلفية في الأسفل.

وكانت نتيجة التجربة مدهشة بكل المقاييس: تمكنت كارولين من زيادة استهلاك الطلاب للأغذية الصحية، وفي الوقت ذاته تقليل استهلاكهم للأغذية غير الصحية، وذلك دون المساس بحريتهم في الاختيار، ودون إجراء أي تعديل على قائمة الطعام، بل فقط من خلال إحداث تغييرات طفيفة على طريقة عرض الأطعمة.

الدرس الثاني الذي نستخلصه هنا، هو أنه بإمكاننا التدخل لتحسين جودة القرارات التي يتخذها الأفراد، بطريقة تضمن من جهة مصالحهم وتحسين حياتهم، ومن جهة أخرى الحفاظ على حريتهم الكاملة في الاختيار. ويتحقق ذلك من خلال تصميم الخيارات على نحو مدروس وموجه.

أما الحكاية الثالثة، فهي قادمة من المغرب. فمع التوسع العمراني المتسارع، بدأت ألاحظ أن المدن الكبرى تتجه بخطى حثيثة نحو التخلي عن العادات والتقاليد الأصيلة التي تربينا عليها. ففي أحد الأحياء الراقية بمدينة فاس، عندما أدخل بعض المتاجر وألقي السلام، أتفاجأ من حين لآخر بأن "زبائن" المتجر يستديرون نحوي بفضول لمعرفة من ذلك الغريب الذي ما زال متمسكًا بتحية "السلام عليكم"، ثم يعودون أدراجهم ويتابعون ما يفعلونه بتجاهل تام لتحيتي، وهو ما يجعلني أشعر بقدر كبير من المرارة. ولكن في مدينتي الصغيرة، حيث ولدت وترعرعت، ما زال الناس يحرصون على رد السلام، ومساعدة المحتاج، واحتضان الغريب. ولكن يبدو أن ذلك لن يدوم طويلًا!

فقد تم افتتاح متجر متوسط الحجم يحاكي تجربة الأسواق الكبرى في طريقة الدخول والخروج، وترتيب البضائع على الرفوف، مع وجود بائعتين خلف صفي انتظار. وقد نجح المتجر في استقطاب أعداد كبيرة من الزبائن الذين يبحث معظمهم عن إرضاء غريزة "التحضر" والتمدن. الأمر الطريف الذي حدث لي، هو أنني أجد نفسي للمرة الأولى في مدينتي الجميلة، أدخل متجرًا لا يوجد فيه أي معنى أو دافع لإلقاء السلام: فباب الدخول يقودني مباشرة إلى أول جناح لعرض البضائع، والذي أجده في الغالب خاليًا من الزبائن، فعلى من ألقي التحية؟ ثم أبدأ في مصادفة مشترين مشتتين بين الرفوف، فهل أسلم على كل زبون ألتقي به؟

حكمة مركزة

أسوأ ما يثير قلقي في هذا الأمر، هو أن سكان مدينتي الطيبين، يتلقون في كل مرة يرتادون فيها هذا المتجر، درسًا اجتماعيًا عمليًا مفاده أنه توجد سياقات معينة يمكنك فيها ألا تلقي السلام. ومع مرور الوقت، سيبدأ الناس في التخلي عن آداب التحية في سياقات مختلفة، وينسون تدريجيًا التأدب مع الآخرين والاهتمام بهم، ويصبحون مثل سكان المدن الكبرى، الذين غالبًا ما يجمعون بين شدة التأنق في المظهر، والبرودة الشديدة في التعاطف الإنساني!

الدرس الثالث الذي نتعلمه هنا، هو أن بعض السياقات التي تنتمي إلى مجالات معينة، قد تؤثر بشكل سلبي في مجالات أخرى تبدو بعيدة عنها، من خلال توجيه الناس بشكل غير متعمد وغير مباشر للقيام بخيارات وسلوكيات سلبية.

وإذا أردنا تجميع الدروس الثلاثة السابقة في حكمة مركزة، فإنها ستكون على النحو التالي: إن الكثير من القرارات التي قد تتبناها جهات حكومية، أو توجهات تجارية أو فنية، قد تكون مفيدة في نطاقها الضيق، ولكنها مكلفة على المستوى الأخلاقي أو الحضاري أو القيمي. وهي تؤثر سلبًا في المجتمع من خلال ما قد تتضمنه من توجيهات خفية وغير واضحة للأفراد.

ولكي أثبت لكم أن بعض القرارات الجيدة قد تكون لها آثار ضارة، سأروي لكم القصة التالية، وهي تحتاج إلى بعض التأمل والتمعن:

في إحدى المدن المغربية، قامت السلطات المختصة أخيرًا بتفكيك حي عشوائي كبير جدًا، نشأ نتيجة لاستقطاب المهاجرين القادمين من القرى والأرياف، والذين أجبرهم الجفاف على الهجرة بحثًا عن العمل. ولم تكن ظروفهم المادية تسمح لهم باستئجار منزل مناسب، فكانوا يشيدون مساكن عشوائية توسعت وتكاثرت على مر السنين.

ونظرًا للظروف الصعبة التي نشأ فيها أبناء ذلك الحي، والذي تأخر المسؤولون كثيرًا في التعامل معه، فقد تحول إلى بؤرة إجرامية خطيرة هددت أمن المدينة الصغيرة الهادئة التي اشتهرت بأمنها وطيبة أهلها على مر السنين.

ورغم أن بعض الاعتداءات الإجرامية بدأت تظهر من حين لآخر في المدينة، فإن معظم الأحياء ظلت محافظة نسبيًا على أجوائها الآمنة، باستثناء ذلك الحي العشوائي الذي كان مسرحًا للاعتداءات وصراعات العصابات الإجرامية. وقد اتخذ المسؤولون مؤخرًا خطوة إيجابية تمثلت في هدم الحي العشوائي بأكمله، تمهيدًا لتعويضه بحي جديد منظم، يضمن سكنًا كريمًا بجميع المرافق الضرورية من مدارس وغيرها. ونتيجة لذلك، تفرق سكان الحي المذكور في أنحاء المدينة بأكملها، واستأجروا شققًا بشكل مؤقت في انتظار الانتهاء من تهيئة الحي الجديد.

ولكن ما حدث بالفعل، هو أن بعض المنحرفين والمجرمين والمراهقين المتهورين الذين كان نشاطهم الإجرامي محصورًا في حيهم الأصلي، قد تفرقوا هم أيضًا في جميع أحياء المدينة، فنقلوا معهم عاداتهم الإجرامية وسلوكهم العنيف، وقيادتهم المتهورة للسيارات المتهالكة، وشتائمهم البذيئة، ومجاهرتهم بتعاطي المخدرات إلى جميع الأحياء. فأصبحت العديد من التجمعات السكنية الهادئة والآمنة تعاني من إزعاج شديد وقلق متزايد من التعرض للاعتداء.

تغيير الهوية

ولا تقتصر التكلفة الاجتماعية والأخلاقية لقرار الإخلاء الكلي على إزعاج سكان المدينة وتعريضهم للاعتداءات المتكررة فحسب، بل يتعلق الأمر أيضًا بتغيير هوية مدينة بأكملها. فالمنحرفون الموزعون على جميع الأحياء يقدمون خبرة إجرامية جاهزة لبعض المراهقين الذين يحملون استعدادًا للانحراف، ويجعلونهم أكثر جرأة على تحدي قيم المجتمع وعادات المدينة، بل ويتسببون في إرهاق رجال الأمن في التصدي لتلك الظواهر الإجرامية بعد أن تبعثرت المعطيات الاستخباراتية التي كانوا يعتمدون عليها، وتفرق المنحرفون في كل مكان.

إن قرار هدم الحي العشوائي وتجهيز حي ملائم مكانه، هو قرار سليم وناجع بكل معايير الكرامة والتخطيط العمراني وسياسات المدينة. ولكن المسؤولين عنه، لا يستطيعون – بحكم طبيعة عملهم واختصاصاتهم – أن يتوقعوا أن طريقة تنفيذ قرارهم هذا مكلفة جدًا على مستويات أخرى بعيدة عن مجال التخطيط العمراني: فالقرار مكلف على المستوى الأخلاقي والتربوي والاجتماعي، وهو يغير هوية المدينة بشكل كامل، وكأنهم أطلقوا عن غير قصد "فيروس إجرام" شديد العدوى في جميع أنحاء المدينة.

وخلاصة القول، إن الكثير من القرارات التي قد تتبناها جهات حكومية، أو يصدرها مسؤولون مختلفون في مجالات السياسة والاقتصاد والفن وتنظيم المجال الديني والتعليم والزراعة وغيرها، قد تكون قرارات صائبة ومفيدة في نطاقها الضيق، ولكنها مكلفة على المستوى الأخلاقي أو الحضاري أو القيمي أو المجتمعي بشكل عام. وهي تؤثر تأثيرًا سلبيًا في المجتمع من خلال ما قد تتضمنه من توجيهات خفية للأفراد، تدفعهم إلى اكتساب عادات اجتماعية سلبية، أو التخلي عن ممارسات اجتماعية مفيدة.

لذا فإنه ينبغي علينا ألا نكتفي بدراسة الجدوى الاقتصادية لما قد نتخذه من قرارات، وإنما يجب علينا أيضًا دراسة الجدوى القيمية والأخلاقية والحضارية لتلك القرارات، وإلا فإنه من الوارد جدًا أن تكون تلك القرارات ذات تكلفة باهظة لا يمكن تحملها!

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة